الخميس، 28 أغسطس 2014

منهج العلوم الرياضية تبعاً لفلسفة الرياضيات.


 
 يجب أولاً أن نبدأ بتعريف القياس الصوري المستخدم في الرياضيات البحتة: علي انه هو كل قول يتألف من قضيتين (أو أكثر) متي سلّمنا بصحتهما لزم عنهما بالضرورة قضية ثالثة. وكانت غاية القياس الصوري هي الإستنباط الصادق أو عدم تناقض الفكر مع نفسه، لأن نتائجه تكون صادقة بالقياس إلي المقدمات لا بالقياس إلي الواقع.
و يعنينا من هذا المنهج القياسي الرياضي أن صاحبه يبدأ من مسلمات، وهي إما بديهيات أو مصادرات؛ فأما البديهيات أو الأوليات (Axioms) فهي قضايا بديهية واضحة بذاتها لا تقبل برهاناً، لأن من يعرف معاني حدودها، يُسلم بصحتها دون حاجة إلي دليل، وهي تدرك برؤية مباشرة أي بالحدس، أو عن طريق الخبرة الحسية أو عن طريق التفكير الإستنباطي العقلي، وهي أولية فطرية، كالبديهية المنطقية التي تقول إن الشئ لا يمكن أن يكون موجوداً أو غير موجود في آنٍ واحد، أو التي تقول إن الكل أكبر من جزئه، وكالبديهية الرياضية التي تقول إن المساويين لثالث متساويان... إلخ.
أما المصادرات فهي قضايا يفترض العالم صحتها منذ البداية مجرد إفتراض، بشرط ألا يعود فيفترض صدق نقيضها، لأن النقيضين لا يصدقان معاً؛ وإذا كان إنكار البديهية يؤدي إلي تناقض، فإن إنكار المصادرة لا يوقع في التناقض، إلي جانب أن المصادرة لا ينشأ اليقين فيها من أنها واضحة بذاتها، بل لأنها فروض قد افترض الباحث صحتها منذ البداية مجرد إفتراض، لمنفعتها أو لأنها لا تسْلم إلي تناقض، كأنما كان الرياضي يتقدم منذ البداية بطلب يقول فيه: سلِّمْ معي منذ البداية بكذا وستري أنك مضطر منطقياً إلي التسليم بكل ما أستنبطه من هذه البداية المفترضة. فالمصادرات مجرد فروض يسلم العالم بصحتها منذ البداية بغير برهان علي صوابها -بعكس الفروض في العلوم التجريبية، لأن هذه لا تكون صادقة إلا بعد التثبت من صوابها بالخبرة الحسية- ومن مصادرات إقليدس: كل الزوايا القائمة متساوية، الخطان المستقيمان يتقاطعان في نقطة واحدة إلخ..
ولكن غير إقليدس من العلماء قد يفترض صحة مصادرات مختلفة أخري، دون أن يكون موضع اعتراض من أحد، طالما كان لا يناقض نفسه.
ولكن المحدثين من الرياضيين لا يقيمون وزناً للتفرقة السالفة بين البديهية والمصادرة، لأن الذي يعني العالم أن كليتهما قضية مسلمة، وهما يقومان بدور واحد كنقطة بدء يقينية، ومن ثم تتيح للعالم أن يقيم علماً متسقاً منتجاً. وذلك إنما يكون عن طريق الإستنباط العقلي من هذه المقدمات، فيصل متدرجاً إلي نتائج هذه النظريات وتكون النظريات -في العلوم الصورية كالرياضة والمنطق- صادقة بالقياس إلي مقدماتها المفترضة وليس بالقياس إلي الواقع، كما هو الشأن في قوانين العلم التجريبي الواقعي، ومن أجل هذا كله قيل إن العلوم الرياضية علوم فرضية صورية إستنباطية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق