الخميس، 28 أغسطس 2014

نبذة عن مشروع فلاسفة.


إننا عندما ندعو إلي التنوير، لا نقصد بهذه الدعوة أن نتمسك بتراث الفلاسفة التنويريين متوهمين أن المستقبل متي جاء علي صورة الماضي، أمكن لنا أن "نزيل كبوتنا" ونحقق نهضتنا، فمثل هذا الموقف الذي يُضفي علي التراث التنويري قداسة ما بعدها قداسة ويحيله في نهاية المطاف من تراث بشري إلي أسطورة جامدة متحجرة قد تدفع البعض إلي تقليده تقليداً تاماً أو تحويله إلي "دوجما" مقدسة.
ولكننا لا نري ذلك، إننا نري ان التنوير ليسه له صيغة واحدة ثابتة لا تتغير بتغير العصور والشعوب، فالتنوير لا يمكن أن يتحول إلي دوجما أو كيان بعيد كل البعد عن المرونة ومتطلبات الواقع المعاش، ومن ثم فإن التنوير -تبعاً لنا- لا يستورد كما تستورد الأجهزة العلمية والإبتكارات التكنولوجية، بل أنه يخضع لعملية معقدة من التفاعل والمعايشة والصراع والتمثل والإبداع، فالتنوير لا يُفرض من الخارج علي نحو قسري كما أنه لا ينقل من مجتمع إلي آخر كما تُنقل بقية السلع والخدمات. وهو لا يكتسب معناه أو دلالته بمعزل عن طبيعة كل شعب وكل عصر، ولو أدركنا التنوير علي هذا النحو، كنا قد حررنا معناه من الإرتباط بحضارة معينة أو شعب معين، فلكل الحق في التنوير بالصورة التي يراها أكثر توافقاً معه من غيرها من الصور.
والحق إن فلسفة التنوير لدينا ليست أسطورة مقدسة؛ بل تعرضت للعديد من الإنتقادات، نذكر منها علي سبيل المثال: نقد "هيجل"؛ فقد كان أنصار الثورة الفرنسية يقولون أنها تمثل تحرير العقل من أوهام الإستبداد، وتعني بإنتصار الإنسانية جمعاء، لكن التجربة أكدت بعد سنوات قليلة أن الدعوة باطلة، إذ كان علي الثوريين أن يحرروا العقل بقوة السلاح ولجأوا إلي إرهاب فاق تعسف الإستبداد التقليدي كما اضطروا إلي استغلال البلاد التي احتلوها ليمولوا حروبهم التوسعية، وبذلك انقلب حكم العقل إلي إرهاب في الداخل واستغلال في الخارج. ومن هنا فإن فلاسفة ألمانيا الكبار من "فختة إلي هيجل" عاشوا هذه التطورات. صفقوا لإندلاع الثورة وإعلان حقوق الإنسان ثم عارضوا الإرهاب وحروب "نابليون" التوسعية. ومن ثم ذهب "هيجل" إلي القول بأن دعوة فلسفة التنوير للعقل وإن كانت ضرورية، لكن العقل في مفهومها كان مجرداً وفارغاً من أي مضمون؛ صحيح صحة تامة مادام مجرداً، أما إذا طُبْق علي الواقع فإنه يعطي الدليل الفوري علي عجزه، لأن المجرد لا يعطي مقياس للتعامل مع الواقع وهكذا ينشأ الإرهاب، فالإرهاب هو ارتطام العقل المجرد بالواقع المحسوس. ومن ثم بدت طموحات وأفكار عصر التنوير مجردة في طبيعتها وصميمها، وبدلاً من اكتشاف العقلانية الكامنة في العملية التاريخية، اتجه فلاسفة التنوير إلي وضع نظام عقلي مثالي بديلاً للعالم الواقعي.

فعلينا، هاهنا، أن نأخذ الواقع المتمثل أمامنا، والظروف التي تحيط بنا، أساساً للتقدم عبر القراءة الواعية، مضموناً للفكر عبر النقد والتمحيص، فإننا عندما ندعو للعقل فإننا ندعو إلي مراجعة شاملة لكل حيثيات الثقافة التي ورثناها سلفاً، بدايةً من المقدسات والمحرمات المتعالية إلي الأفكار العادية البسيطة التي يتعامل بها رجل الشارع البسيط؛ وبهذا يكون التنوير، بهذه الإنتقادات والتمحيصات نجد أنفسنا قد هدمنا الخرافات، وحررنا أنفسنا من القيود التي كبْلتنا، والديكتاتوريين الذين ساروا فوق أكتافنا -بإستغلالهم جهل العامة و إحتياجاتهم الطبيعية- مراراً و تكراراً؛ بعد أن مهْدنا لهم الطريق بكل سهولة. علينا أن نأخذ إحتياطاتنا هذه المرة، فلا بأس من الخطأ لأن التجربة هي خير مُعلْم، وأن نسير نهج المفكرين الأحرار الذين لا يخضعون إلا لسلطة العقل الحيّ النابض بالأفكار الحاضرة والمستقبلية، نُقدْم الواقع علي الفكر، ونأخذه -بكل ما فيه- معياراً-وليس نموذجاً- للحكم، فمادام الواقع توافق مع العقل، ومادمنا قد هدمنا الأفكار الغيبية والخرافية التي كبْلتنا، ومادمنا قد حررنا أنفسنا بالعلم المنهجيّ والعقل المادي، فإننا هاهنا قد وصلنا إلي ما أردناه، وهذا ما نقصد به من التنوير، وهذا ما ينبغي عليه أن يكون، كما نعتقد.

0 التعليقات:

إرسال تعليق